والكريم لا يضام
بقلم د/محمد بركات
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
فإن من اعتاد الكرم اعتاد الخير فلا تضيق به الأحوال، ومهما تبدلت وتعاقبت عليه الظروف فكرمه أنيسه وجليسه.
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرم الناس وأجودهم .
بل لقد مثَّل النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى والقدوة الحسنة في الجُود والكَرَم، فكان أجود النَّاس، وكان أجود ما يكون في رمضان، فكان أجود بالخير مِن الرِّيح المرسلة.
(وقد بلغ صلوات الله عليه مرتبة الكمال الإنساني في حبِّه للعطاء، إذ كان يعطي عطاء مَن لا يحسب حسابًا للفقر ولا يخشاه، ثقة بعظيم فضل الله، وإيمانًا بأنَّه هو الرزَّاق ذو الفضل العظيم) (الأخلاق الإسلاميَّة وأسسها) لعبد الرَّحمن الميداني (2/377).
فعن موسى بن أنسٍ، عن أبيه، قال: (ما سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئًا إلَّا أعطاه، قال: فجاءه رجلٌ فأعطاه غنمًا بين جبلين، فرجع إلى قومه، فقال: يا قوم أسلموا، فإنَّ محمَّدًا يعطي عطاءً لا يخشى الفاقة) (رواه مسلم (2312) .
وقال أبو هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو كان لي مثل أحدٍ ذهبًا ما يسرُّني أن لا يمرَّ عليَّ ثلاثٌ، وعندي منه شيءٌ إلَّا شيءٌ أرصدُهُ لدينٍ) (رواه البخاري (2389).
(إنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم، يقدِّم بهذا النَّموذج المثالي للقدوة الحسنة، لاسيَّما حينما نلاحظ أنَّه كان في عطاءاته الفعليَّة، مطـبِّــقًا لهذه الصُّورة القوليَّة التي قالها، فقد كانت سعادته ومسرَّته عظيمتين حينما كان يبذل كلَّ ما عنده مِن مال.
ثمَّ إنَّه يربِّي المسلمين بقوله وعمله على خُلُق حبِّ العطاء، إذ يريهم مِن نفسه أجمل صورة للعطاء وأكملها) (الأخلاق الإسلاميَّة وأسسها) لعبد الرَّحمن الميداني (2/378).
وعن جبير بن مطعمٍ، أنَّه بينا هو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه النَّاس، مقبلًا مِن حنينٍ، عَلِقَتْ رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعراب يسألونه حتى اضطروه إلى سَمُرَةٍ، فَخطِفَتْ رداءه، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((أعطوني ردائي، فلو كان عدد هذه العِضَاهِ نَعَمًا، لقسمته بينكم، ثمَّ لا تجدوني بخيلًا، ولا كذوبًا، ولا جبانًا)) (رواه البخاري (3148).
وأهدت امرأة إلى النَّبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام شملةً منسوجة، فقالت: (يا رسول الله، أكسوك هذه، فأخذها النَّبيُّ عليه الصَّلاة والسَّلام محتاجًا إليها، فلبسها، فرآها عليه رجل مِن الصَّحابة، فقال: يا رسول الله، ما أحسن هذه! فاكْسُنِيها، فقال: نعم، فلمَّا قام النَّبيُّ عليه الصَّلاة والسَّلام لامه أصحابه، فقالوا: ما أحسنت حين رأيت النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أخذها محتاجًا إليها، ثمَّ سألته إيَّاها، وقد عرفت أنَّه لا يُسْأَل شيئًا فيمنعه، فقال: رجوت بركتها حين لبسها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لعلِّي أكفَّن فيها) (رواه البخاري (6036).
وكان صلى الله عليه وسلم يُؤْثِـر على نفسه، فيعطي العطاء ويمضي عليه الشَّهر والشَّهران لا يُوقَد في بيته نارٌ (7مكارم الأخلاق) لابن عثيمين (ص 56).
- (وكان كرمه صلى الله عليه وسلم كرمًا في محلِّه، ينفق المال لله وبالله، إمَّا لفقير، أو محتاج، أو في سبيل الله، أو تأليفًا على الإسلام، أو تشريعًا للأمَّة، وغير ذلك .
فما أعظم كرمه وجوده وسخاء نفسه، صلى الله عليه وسلم، وما هذه الصِّفة الحميدة إلَّا جزءٌ مِن مجموع الصِّفات التي اتصف بها حبيبنا صلى الله عليه وسلم، فلا أبلغ ممَّا وصفه القرآن الكريم بقوله: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [سورة القلم، الآية: 4].
تعال معي أوقفك علي جزء من فضل الكرم والجود من رجل صالح وزوجة صالحة.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فبعث إلى نسائه، فقلْنَ: ما معَنَا إلا الماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يَضم أو يُضيِّف هذا؟ فقال رجل من الأنصار: أنا، فانطَلَق به إلى امرأته فقال: أَكرِمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: ما عندنا إلا قوت صبياني، فقال: هيئي طعامك، وأصبِحِي سراجَك، ونوِّمي صبيانك إذا أرادوا عشاءً.
فهيَّأت طعامها، وأصبحت سراجها، ونوَّمت صبيانها، ثم قامت كأنها تُصلِح سراجها فأطفأته، فجعلا يُريانِه أنهما يأكلان، فباتا طاويين، فلمَّا أصبَحَ غَدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (ضحكَ الله الليلة - أو عجب - من فعالكما) فأنزل الله: ﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [سورة الحشر، الآية: 9]
[صحيح البخاري 1 / 69 رقم: 3798، صحيح مسلم 3 / 1264 رقم: 2054].
ويستفاد من هذا الحديث :
{اولا} اسم هذا الأنصاري قيل: هو أبو المتوكِّل ثابت بن قيس، وقيل: إنَّه من أهل الصُّفَّة، وقيل: إنَّه أبو هريرة رضي الله عنه.
{ثانياً} قول المرأة: "ما عندنا إلا قوت صبياني" يَحتمل أن الصبيان لم يكونوا محتاجين إلى الأكل، وإنما تطلبُه أنفسهم على عادة الصبيان من غير جوع يضرُّ، فإنهم لو كانوا على حاجة بحيث يضرُّهم ترك الأكل، لكان إطعامهم واجبًا يقدم على الضيافة، وقد أثنى الله عليهما، فدل أنهما لم يَترُكا واجبًا، أو يقال: إنها علمت صبرهم عن العشاء تلك الليلة؛ لأن الإنسان قد يصبر ساعة عن الأكل ولا يتضرَّر به ولا يجهده.
{ثالثاً} قوله: "فباتا طاويين"؛ أي: ناما جائعين، وإذا جاع الرجل، انطوى جلد بطنه.
{رابعا} جواز نفوذ فعل الأب على الابن وإن كان مُنطويًا على ضرر، إذا كان ذلك من طريق النظر، وأن القول فيه قول الأب والفعل فعله.
{خامساً} كان ذلك الإيثار لقضاء حق الرسول صلى الله عليه وسلم في إجابة دعوته، والقيام بحق ضيفه
[مستفاد من: التوضيح لشرح الجامع الصحيح؛ لابن الملقن].
{سادساً} قوله: "فقلْنَ: ما معَنا - أي: ما عندنا - إلا الماء" فيه ما يُشعر بأنَّ ذلك كان في أول الحال، قبل أن يفتح الله لهم خيبر وغيرها.
{سابعاً} كَرَمُ الأنصار، مع ما فيه بعضهم من ضَنك العيش، وقلَّة ذات اليد.
{ثامناً} لم يكن في بيوتات النبي صلى الله عليه وسلم طعام لكي يضيِّف هذا الرجل.
{عاشراً} المبادرة إلى الخير، والاستجابة السريعة لطلب النبي صلى الله عليه وسلم.
ولا شك في ذلك من حصول الأجر والثواب من الله، وكذلك التعجُّب والضحك منه سبحانه لما فعل الصحابي وزوجه.
وأخيراً لنعلم أن الجوع أمره عظيم؛ فهو يُغيِّر سلوكَ الإنسان، وقد يوصله إلى الكفر بالله؛ لذلك تعوَّذ منه النبي صلى الله عليه وسلم؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((اللهم إني أعوذ بك من الجوع؛ فإنه بئس الضجيع))[سنن أبي داود 1 / 567 رقم: 1549، سنن النسائي الكبرى 4 / 452 رقم: 7851، سنن ابن ماجه 2 / 1113 رقم: 3354، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود 5 / 271، وفي صحيح الجامع 1 / 275 رقم: 1283]
وفضل عظيم هو تعاون الزوج وزوجته على البرِّ والتقوى.
طبتم من أهل الجود والكرم.