دنيا ودين ومع النبى الإنسان
بقلم / محمـــد الدكـــرورى
إن الحديث عن رسول الله الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، له حلاوة تتذوقها القلوب المؤمنة، وتهفو إليها الأرواح الطاهرة، وهو في ذاته قربة كبرى يتقرب بها العبد المسلم إلى الله عز وجل، وكل مُريد رِضوانه ومثوبته سبحانه وتعالى، ورحاب النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم واسعة، فهو بستان العارفين، ومُتنزه المحبين، ويحنون إلى سيرته وشمائله وأخلاقه، فيقطفون منها على قدر جهادهم في حب الله تعالى، وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد خلق الله عز وجل بني آدم وجعلهم من المكرمين، واختار من بينهم الأنبياء والمرسلين، ووصف أولئك الأئمة الأبرار، بالمصطفين الأخيار، وجعل سيدهم وإمامهم، وخيرهم وأفضلَهم، نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم، فهو خيار من خيار، اجتباه الله لهداية الناس أجمعين، فقال وهو أصدق القائلين ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) ولقد جمّل الله خلقه وكمّل خُلقه.
وأتم عليه النعمة إتماما، وجعله للناس كلهم إماما، ووصفه بأحسن الصفات، ونعته بأطيب النعوت والكمالات، صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا، قد تجلت لنا مظاهر رحمة النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، حتى شملت القاصي والداني، والقريب والبعيد، والصديق والعدو، والبر والفاجر، وتلكم هى رحمة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بالعامة، فقد روى ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لن تؤمنوا حتى تراحموا" قالوا يا رسول الله، كلنا رحيم، قال صلى الله عليه وسلم "إنه ليس برحمة أحدِكم صاحبه، ولكنها رحمة العامة" رواه الطبراني، وإن من الأخلاق الكريمة، التي لا تصدر إلا عن أهل الفطر المستقيمة، والقلوب النقية السليمة، ذلك الخُلق الكريم المتمثل في الاعتراف بالجميل ومكافأة مسديه، وقد أمر النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، بالمكافئة على المعروف فقال صلى الله عليه وسلم.
"ومن صنع إليك معروفا فكافئوه فإن لم تستطيعوا فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه" ألا وإن أعظم الناس عليكم معروفا، هو صاحب المعروف عليكم آبائكم وأمهاتكم، وإخوانكم وأخواتكم، بل وعلى جميع المسلمين والمسلمات، إنه النبى الكريم محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم الذي تفضل الله عز وجل عليه بالرسالة فجعل له فضلا في هداية المسلمين إلى هذا الدين القويم، نعم إنه النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، الذي صبر وصابر واجتهد وجاهد ليقول للناس لا إله إلا الله، فيفوزوا بعز الدنيا ونعيم الآخرة، فمنزلته بين الناس أعلى المنازل، وحقه عليهم أعظم الحقوق صلى الله عليه وسلم، فمن حقوقه صلى الله عليه وسلم بل هو أول حقوقه على الناس وأولاها هو الإيمان به صلى الله عليه وسلم، وأنه رسول الله حقا ونبيه صدقا وأن الدين الذي يقبله الله هو الدين الذي بعثه الله به، وأن من كفر به من النصارى واليهود وغيرهم.
من أهل الملل والأديان فهو كافر بالله العظيم، وهو من أهل النار بمشيئة الله وعدله، كما قال تبارك وتعالى (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "والذي نفسي بيده لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا كان من أهل النار" رواه مسلم، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهيب بالأمة كلها أن تقف لنصرة المظلوم أيا كان مستواه ومكانته، حيث ربط بين هذه القضية وقضية كرامة الأمة نفسها، فقال صلى الله عليه وسلم، كيف يقدس الله أمة لا يؤخذ لضعيفِها من شديدها حقه وهو غير متعتع" رواه ابن ماجه، وكان الصالحون رضوان الله عنهم لهم حال مع الضعفاء والفقراء والمساكين، ولقد أثر عن علي زين العابدين رحمه الله أنه كان إذا جنّ عليه الليل حمل الطعام على ظهره إلى بيوت الأرامل والأيتام، وكان إماما من أئمة المسلمين.
وعلما من أعلام الدين، ومع ذلك تواضع لله عز وجل، لعلمه أن الله يحب منه تلك الخطوة، ولعلمه أن جبر تلك القلوب يجبر الله به كسر العبد في الدنيا والآخرة، فخرج رحمه الله في الظلام بعيدا عن الرياء والسمعة والثناء، يشتري بذلك رحمة الله سبحانه، فلما توفي رحمه الله، فقدت تلك البيوت من كان يقرع عليهم في جوف الليل، وفي بعض الروايات، كان ما يقرب من ثلاثين بيتا مِن ضعفة المسلمين، كان يمشي إليها بخطواته، فمات رحمه الله وما ماتت تلك الخطى، وسيراها بعينيه في يومٍ لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، فإن المشي إلى الضعفاء، والمشي إلى البؤساء له لذة يعرفها من يعرفها، وإن المشي إلى المحرومين البائسين له رحمة يجدها من وجدها، فهؤلاء الأئمة الأخيار الصفوة الأبرار، عرفوا مقدار المعاملة مع الله، فاختاروا لنهارهم العلم والعمل، واختاروا لليلهم جبر القلوب المكسورة، وإدخال السرور عليها.
فلما أرادوا أن يغسلوه رحمه الله، خلعوا ثيابه، فوجدوا ظهره متشحطا من كثرة ما حمل عليه من الطعام، فرحمه الله رحمة واسعة، وكان صلى الله عليه وسلم، يحب أصحابه ويبدأهم بالسلام ويكنيهم ويدعوهم بأحب الأسماء إليهم، بل كان يقف لخدمتهم ويجهد نفسه لراحتهم، ويقول أنس بن مالك رضى الله عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسقي أصحابه، فقالوا، يا رسول الله، لو شربت؟ قال "ساقي القومي آخرهم شربا" وكان من رحمة النبي صلى الله عليه وسلم مع بعض أخطاء الغير، يحكي خوّات بن جُبير عن نفسه، فيقول نزلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران، قال فخرجت من خبائي، فإذا أنا بنسوة يتحدثن فأعجبنني، فرجعت فاستخرجت حلة فلبستها، وجئت فجلست معهن، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبة، فلما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم هبته واختلطت، وقلت يا رسول الله.
جمل لي شرد، فأنا أبتغي له قيدا، ومضى فاتبعته، فألقى إليّ رداءه، ودخل الأراك فقضى حاجته وتوضأ، فأقبل والماء يسيل على صدره من لحيته، فقال صلى الله عليه وسلم "أبا عبدالله، ما فعل ذلك الجمل؟ " وارتحلنا، فجعل لا يلحقني في المسير إلا قال " السلام عليك أبا عبدالله، ما فعل شراد ذلك الجمل؟ " فلما طال ذلك عليّ أتيت المسجد، فقمت أصلي، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعض حجره، فجاء فصلى ركعتين، فطولت رجاء أن يذهب ويدعني، فقال " أبا عبدالله، طوّل ما شئت أن تطوّل، فلست بمنصرف حتى تنصرف" فقلت في نفسي والله لأعتذرن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأبرئن صدره، فلما انصرفت، قال "السلام عليك أبا عبدالله، ما فعل شراد ذلك الجمل؟ " قلت والذي بعثك بالحق، ما شرد ذلك الجمل منذ أسلمت، فقال "يرحمك الله" ثلاثا، ثم لم يعد لشيء مما كان.
ولقد كان النبى صلى الله عليه وسلم، من صفاء معدنه، وإشراقة نفسه، كان يحب الجمال، ويكره القبح، وتهفو نفسه إلى المعاني الرائعة، وتنفر من معاني الشدة والغلظة، حتى أنه غير أسماء أصحابه التي فيها جفوة أوقسوة وبدلها إلى ما فيه رقة وعذوبة، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه غير اسم عاصية وقال " أنت جميلة" وغير اسم أصرم قال له أنت " زرعة" وغير اسم حزن، وجعله سهلا، وغير اسم العاص، وعزير، وشيطان، وغراب، إلى هشام، وسمى حربا، "سلما" وأرض عفرة، سماها "خضرة" وشعب الضلالة، سماها "شعب الهدى" وبنو الزينة، سماهم "بنو الرشدة" وبني معاوية سماهم "بني الرشيدة" وكان النبى صلى الله عليه وسلم، إذا أكل عند قوم لم يخرج حتى يدعو لهم، فدعا لعبد الله بن بسر فقال صلى الله عليه وسلم "اللهم بارك لهم في ما رزقتهم، واغفر لهم وارحمهم " وقد سقاه رجل لبنا فقال صلى الله عليه وسلم " اللهم أمتعه بشبابه فمرت به ثمانون سنة لم ير شعرة بيضاء"
